أبو الطيب الرُّندي :
هو شاعر الأندلس وأديبها في زمانه ، وصاحب مرثيتها المشهورة ، صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن على بن شريف النِّفري الرُّندي ، نسبةً إلى رُنْدَة إحدى مدن الأندلس الواقعة في الجزء الجنوبي من الأندلس – أسبانيا اليوم –
وأما عن كنبته فقد أُختلف فيها فعند لسان الدين بن الخطيب في كتابه " الإحاطة في أخبار غرناطة " أبو الطيب ، وعند المُقرّي في " نفح الطيب " أبو البقاء وبها اشتهر ، إلاَّ أن الأرجح والصحيح أن كنيته " أبو الطيب " لقُرب زمان لسان الدين بن الخطيب منه ، وذلك أن أبي الطيب من وفيات سنة ( 684 هـ ) ، ولسان الدين من وفيات سنة ( 776 هـ) ،
شعره :
وأما شعره فكان أبو الطيب من أفاضل العلماء بالأندلس ، ومن شعرائها له قصائد طنانة ونظم رائق في وصف العقل ، و البحر ، وغير ذلك تدل على رفيع أدبه ، وجزالة شعره منها قوله في وصف الجيش ، وأبطال المسلمين ، وذل الكفر ، والكافرين :
وكتيبة بالدَّارعين كثيفة * * * جرَّت ذيول الجحفل الجرار
روضُ المنايا بينها القُضُب التي * * * زُفَّت بها الرَّايات كالأَزهار
فيها الكُماة بنو الكُماة كأَنهم * * * أُسد الشَّرى بين القنا الخَطّار
مُتهلِّلين لدى اللِّقاء كأَنهم * * * خُلِقت وجوههم من الأَقمار
من كلِّ ليثٍ فوق برقٍ * * * خاطف بيمينه قدرٌ من الأَقدار
من كلِّ ماضٍ قد تقلَّد مثله * * * فيصُيبَّ آجالاً على الأَعمار
لبسوا القلوب على الدروع * * * وأَسرعـوا لأكفِّهم ناراً لأهل النار
وتقدموا ولهم على أعدائهم * * * حُنقُ العِدا وحميَّةُ الأنصار
فارتاع ناقوس بخلع لِسانه * * * وبكى الصَّليب لِذلَّة الكفار
ثم انثنوا عنه وعن عُبّادهِ * * * وقد اْصبحوا خبراً من الأخبار
وله شعر جميل في وصف العقل ، والغربة في ثلاثة أبيات :
ما أحسن العقل وآثاره * * * لو لازم الإنسان إيثارهُ
يصون بالعقل الفتى نفسه * * * كما يصون الحر أسرارهُ
لاسيما إن كان في غُربةٍ * * * يحتاج أن يُعرف مقدارُه
وله في المحاكمة بين السيف ، والقلم وهما مما اختلف بينهما الأُدباء قديماً ، ويبدو من خلال أبياته انه يرجح التساوي فقال :
تفاخر السيف فيما قيل والقلم * * * والفضل بينهم لاشك منفهمُ
كلاهما شرَّف الله درَّهُما * * * وحبَّذا الخُطّتان الحُكم والحَكمُ
وقال في أخوة السوء ، والصحبة المزيفة التي تتلاشى عند الحاجة ولا تدوم عند النائبات ، - وهذا حال الحب في غير الله -
ليس الأُخوةٍ باللسان أُخُوَّة * * * فإذا تُراد أخوَّتي لا تنفعُ
لا أنت في الدنيا تُفرج كربة * * * عنِّي ولا يوم القيامة تشفعُ
و لا شك أن مرثية أبي الطيب في الأندلس من أجمل ما قيل في رثاء بلاد المسلمين ، وهي في الحقيقة لا تعني فقط الأندلس بعينها - وإن كانت أبياتها تذكر معالم الأندلس – ، بل تعني كل بلد من بلاد المسلمين سُلبت من بين أيدي أهلها ، كما حدث لكثير من البلاد الإسلامية التي استولى عليها النصارى ، مثل جزيرة صقلية التي فتحت في أيام الدولة العباسية ، على يد القاضي أسد بن الفرات – رحمه الله - ، وبقي الإسلام فيها مدة إلى أن تغلب النصارى عليها ، أو البلاد التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية أيام خلافتها مثل دول البلقان وما جاورها ، وكل هذا حصل لما غيّر الناس وبدلوا في دين الله بأهوائهم ، واشتغلوا بالملذات ، وللهو وهذا أيضاً ما قالهُ واعترف به ابن الكموني أبو الحسن علي بن عبد الجبار الكاتب ، في سبب فقدان صقلية حينما رثاها
قد كانت الدار وكنا بها * * * في ظل عيش ناعم رطبِ
مدّ عليها الأمن أستارهُ * * * فسار ذكرها مع الركبِ
لم يشكروا نعمة ما خُوِّلُوا * * * فبُدِّلُوا المِلح من العذبِ
وصدق الله تعالى القائل : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم }[ الرعد / 11 ] .
والمتأمل لقصيدة أبي الطيب الرندي يتضح له أنها قصيدة ملحمية تمثل المرحلة التاريخية التي عاشها أهل الأندلس خير تمثيل ، وإن كان في الحقيقة سقوط الأندلس ، خبرها مدوياً في الأمة الإسلامية ومزعجاً ، فهي التي كانت تنتظر نصراً موزراً ، وفتحاً مبيناً إذا بها تتجرع كأس الهزيمة ، وفقد الأندلس بعد أن بقي الإسلام فيها قرون طويلة منذ أن فُتحت على يد طارق بن زياد ، وموسى بن نصير - رحمهم الله - سنة ( 92 هـ ) إلى أن حل بها ما حل .
ولم يبقى الآن إلا أن نستعرض أبيات المرثية ونبقى مع الرندي في نونيته فيقول :
لكل شيء إذا ماتم نقصانُ * * * فلا يُغرُّ بطِيب العـيشِ إنسـانُ
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ * * * من سره زمن ساءتهُ أزمــانُ
وهذه الدار لا تُبقي على أحد * * * ولا يدوم على حالٍ لهـا شــانُ
تُمزق الدهر حتماً كل سابغةٍ * * * إذا نبت مشرفيـّاتٌ وخُرصـانُ
وينتضي كلّ سيف للفناء ولوْ * * * كان ابن ذي يزَن والغمدَ غمدانُ
أين الملوك ذوي التيجانِ من يمنٍ * * * وأين منهم أكليــلٌ وتيجانُ ؟
وأين ما شادهُ شدادُ في إرمٍ * * * وأين ما ساسهُ في الفُـرسِ ساسانُ ؟
وأين ما حازه قارُونُ من ذهبٍ * * * وأين عادٌ وشـدادٌ وقحطـانُ ؟
أتى على الكُلِّ أمرٍ لا مردّ َلهُ * * * حتى قضوا فكأنَّ القوم ما كانُـوا
وصار ما كان من مُلكٍ ومن مَلكٍِِِ * * *كما حكى عن خيالِ الطّيفِ وسنانُ
دارَ الزّمانُ على دارا وقاتلـهِ * * * وأمَّ كسـرى فمـا آواه إيـوانُ
كأنما الصعبُ لم يسهُل لهُ سببُ * * * يوماً ولا مَلكَ الدُّنيـا سُليمـانُ
فجائعُ الدَّهر أنـواعٌ مُنوَّعـةٌ * * * ولِلزمـانِ مسـرَّاتٌ وأحــزانُ
وللحوادثِ سلـوَانٌ يُسهلُهـا * * * وما لما حـلَّ بالإسـلام سُلـوانُ
دهى الجزيرة أمرٌ لا عزاء له * * * هوى لـه أُحدٌ وأنهد ثهـلانُ
أصابها العينُ في الإسلام فارتَزأت * * * حتى خلَت منه أقطار وبُلـدانُ
فأسأل بلنسية ما شأنُ مُرسيةً * * * وأيـن شاطبـة أم أيـن جيـَّـانُ
وأين قرطبةٌ دار العلوم فكـم * * * من عالـمٍ قد سمـا فيها له شـانُ
وأين حمصُ وما تحويه من نزهٍ * * * ونهرهُا العذبُ فياضٌ وملآنُ
قواعدٌ كنَّ أركان البلاد فمـا * * * عسى البقاءُ إذا لـم تبـق أركـانُ
تبكي الحنفية البيضاء من أسفٍ * * * كما بكى لفراق الإلـف هيمـانُ
على ديار من الإسلام خاليـة * * * قد أقفرت ولها بالكفـر عُمـرانُ
حيث المساجد قد صارت كنائس ما * * * فيهنَّ إلا نواقيـسٌ و صلبانُ
حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ * * * حتى المنابرُ تبكي وهي عيدانُ
يا غافلاً وله في الدهر موعضةٌ * * * إن كنت في سِنةٍ فالدهرُ يقضانُ
وماشياً مرحاً يلهيـه موطنـهُ * * * أبعد حمصٍ تغرُّ المـرء أوطـانُ
تلك المصيبةُ أنستْ ما تقدمهـا * * * وما لها من طول الدهرِ نسيـانُ
يا راكبين عِتاق الخيل ضامرةً * * * كأنها في مجال السبـقِ عقبـانُ
وحاملين سيُوف الهندِ مرهفـةُ * * * كأنها في ظلام النقـع نيـرانُ
وراتعين وراء البحر في دعـةٍ * * * لهم بأوطانهم عـزٌّ وسلطـانُ
أعندكم نبأ من أهل أندلـسٍ * * * فقد سرى بحديثِ القوم رُكبـانُ ؟
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم * * * قتلى وأسرى فما يهتز إنسانُ ؟
ماذا التقاطع في الإسلام بينكمُ * * * وأنتم يا عبـاد اللـه إخـوانُ ؟
ألا نفوسٌ أبياتٌ لهـا هِــممٌ * * * أما على الخيرِ أنصارٌ وأعـوانُ
يا من لذلة قومٍ بعد عزِّهــمُ * * * أحـال حالهـمْ جـورُ وطُغيانُ
بالأمس كانوا ملوكاً في منازلهم * * * واليوم هم في بلاد الكفرِّ عبدانُ !
فلو تراهم حيارى لا دليل لهـمْ * * * عليهمُ من ثيابِ الـذلِ ألـوانُ
يا ربَّ أمّ وطفل حيل بينهمـا * * * كمـا تفـرقَ أرواحٌ وأبـدانُ
وطفلةً مثل حسنِ الشمسِ إذ طلعت * * * كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ
يقودها العِلجُ للمكروه مُكرهةً * * * والعينُ باكيةُ والقلب حيرانُ
لمثل هذا يذوب القلبُ من كمدٍ * * * إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ
قال المقري : " انتهت القصيدة الفريدة ويوجد بأيدي الناس زيادات فيها ذكر غرناطة ، وبسطة ، وغيرهما مما أخد من البلاد بعد موت صالح بن شريف ، وما اعتمدته منها نقلته من خط من يوثق به على ما كتبته ، ومن له أدنى ذوق علم أن ما يزيدون فيها من الأبيات ليست تقاربها في البلاغة ، وغالب ظني أن تلك الزيادة لما أخذت غرناطة وجميع بلاد الأندلس ، إذ كان أهلها يستنهضون هِمم الملوك بالمشرق ، والمغرب فكأن بعضهم لما أعجبته قصيدة صالح بن شريف زاد فيها تلك الزيادات .
توفي أبو الطيب الرُّندي – رحمه الله - سنة أربع وثمانين وستمائة ( 684) للهجرة النبوية الشريفة .[center]
هو شاعر الأندلس وأديبها في زمانه ، وصاحب مرثيتها المشهورة ، صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن على بن شريف النِّفري الرُّندي ، نسبةً إلى رُنْدَة إحدى مدن الأندلس الواقعة في الجزء الجنوبي من الأندلس – أسبانيا اليوم –
وأما عن كنبته فقد أُختلف فيها فعند لسان الدين بن الخطيب في كتابه " الإحاطة في أخبار غرناطة " أبو الطيب ، وعند المُقرّي في " نفح الطيب " أبو البقاء وبها اشتهر ، إلاَّ أن الأرجح والصحيح أن كنيته " أبو الطيب " لقُرب زمان لسان الدين بن الخطيب منه ، وذلك أن أبي الطيب من وفيات سنة ( 684 هـ ) ، ولسان الدين من وفيات سنة ( 776 هـ) ،
شعره :
وأما شعره فكان أبو الطيب من أفاضل العلماء بالأندلس ، ومن شعرائها له قصائد طنانة ونظم رائق في وصف العقل ، و البحر ، وغير ذلك تدل على رفيع أدبه ، وجزالة شعره منها قوله في وصف الجيش ، وأبطال المسلمين ، وذل الكفر ، والكافرين :
وكتيبة بالدَّارعين كثيفة * * * جرَّت ذيول الجحفل الجرار
روضُ المنايا بينها القُضُب التي * * * زُفَّت بها الرَّايات كالأَزهار
فيها الكُماة بنو الكُماة كأَنهم * * * أُسد الشَّرى بين القنا الخَطّار
مُتهلِّلين لدى اللِّقاء كأَنهم * * * خُلِقت وجوههم من الأَقمار
من كلِّ ليثٍ فوق برقٍ * * * خاطف بيمينه قدرٌ من الأَقدار
من كلِّ ماضٍ قد تقلَّد مثله * * * فيصُيبَّ آجالاً على الأَعمار
لبسوا القلوب على الدروع * * * وأَسرعـوا لأكفِّهم ناراً لأهل النار
وتقدموا ولهم على أعدائهم * * * حُنقُ العِدا وحميَّةُ الأنصار
فارتاع ناقوس بخلع لِسانه * * * وبكى الصَّليب لِذلَّة الكفار
ثم انثنوا عنه وعن عُبّادهِ * * * وقد اْصبحوا خبراً من الأخبار
وله شعر جميل في وصف العقل ، والغربة في ثلاثة أبيات :
ما أحسن العقل وآثاره * * * لو لازم الإنسان إيثارهُ
يصون بالعقل الفتى نفسه * * * كما يصون الحر أسرارهُ
لاسيما إن كان في غُربةٍ * * * يحتاج أن يُعرف مقدارُه
وله في المحاكمة بين السيف ، والقلم وهما مما اختلف بينهما الأُدباء قديماً ، ويبدو من خلال أبياته انه يرجح التساوي فقال :
تفاخر السيف فيما قيل والقلم * * * والفضل بينهم لاشك منفهمُ
كلاهما شرَّف الله درَّهُما * * * وحبَّذا الخُطّتان الحُكم والحَكمُ
وقال في أخوة السوء ، والصحبة المزيفة التي تتلاشى عند الحاجة ولا تدوم عند النائبات ، - وهذا حال الحب في غير الله -
ليس الأُخوةٍ باللسان أُخُوَّة * * * فإذا تُراد أخوَّتي لا تنفعُ
لا أنت في الدنيا تُفرج كربة * * * عنِّي ولا يوم القيامة تشفعُ
و لا شك أن مرثية أبي الطيب في الأندلس من أجمل ما قيل في رثاء بلاد المسلمين ، وهي في الحقيقة لا تعني فقط الأندلس بعينها - وإن كانت أبياتها تذكر معالم الأندلس – ، بل تعني كل بلد من بلاد المسلمين سُلبت من بين أيدي أهلها ، كما حدث لكثير من البلاد الإسلامية التي استولى عليها النصارى ، مثل جزيرة صقلية التي فتحت في أيام الدولة العباسية ، على يد القاضي أسد بن الفرات – رحمه الله - ، وبقي الإسلام فيها مدة إلى أن تغلب النصارى عليها ، أو البلاد التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية أيام خلافتها مثل دول البلقان وما جاورها ، وكل هذا حصل لما غيّر الناس وبدلوا في دين الله بأهوائهم ، واشتغلوا بالملذات ، وللهو وهذا أيضاً ما قالهُ واعترف به ابن الكموني أبو الحسن علي بن عبد الجبار الكاتب ، في سبب فقدان صقلية حينما رثاها
قد كانت الدار وكنا بها * * * في ظل عيش ناعم رطبِ
مدّ عليها الأمن أستارهُ * * * فسار ذكرها مع الركبِ
لم يشكروا نعمة ما خُوِّلُوا * * * فبُدِّلُوا المِلح من العذبِ
وصدق الله تعالى القائل : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم }[ الرعد / 11 ] .
والمتأمل لقصيدة أبي الطيب الرندي يتضح له أنها قصيدة ملحمية تمثل المرحلة التاريخية التي عاشها أهل الأندلس خير تمثيل ، وإن كان في الحقيقة سقوط الأندلس ، خبرها مدوياً في الأمة الإسلامية ومزعجاً ، فهي التي كانت تنتظر نصراً موزراً ، وفتحاً مبيناً إذا بها تتجرع كأس الهزيمة ، وفقد الأندلس بعد أن بقي الإسلام فيها قرون طويلة منذ أن فُتحت على يد طارق بن زياد ، وموسى بن نصير - رحمهم الله - سنة ( 92 هـ ) إلى أن حل بها ما حل .
ولم يبقى الآن إلا أن نستعرض أبيات المرثية ونبقى مع الرندي في نونيته فيقول :
لكل شيء إذا ماتم نقصانُ * * * فلا يُغرُّ بطِيب العـيشِ إنسـانُ
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ * * * من سره زمن ساءتهُ أزمــانُ
وهذه الدار لا تُبقي على أحد * * * ولا يدوم على حالٍ لهـا شــانُ
تُمزق الدهر حتماً كل سابغةٍ * * * إذا نبت مشرفيـّاتٌ وخُرصـانُ
وينتضي كلّ سيف للفناء ولوْ * * * كان ابن ذي يزَن والغمدَ غمدانُ
أين الملوك ذوي التيجانِ من يمنٍ * * * وأين منهم أكليــلٌ وتيجانُ ؟
وأين ما شادهُ شدادُ في إرمٍ * * * وأين ما ساسهُ في الفُـرسِ ساسانُ ؟
وأين ما حازه قارُونُ من ذهبٍ * * * وأين عادٌ وشـدادٌ وقحطـانُ ؟
أتى على الكُلِّ أمرٍ لا مردّ َلهُ * * * حتى قضوا فكأنَّ القوم ما كانُـوا
وصار ما كان من مُلكٍ ومن مَلكٍِِِ * * *كما حكى عن خيالِ الطّيفِ وسنانُ
دارَ الزّمانُ على دارا وقاتلـهِ * * * وأمَّ كسـرى فمـا آواه إيـوانُ
كأنما الصعبُ لم يسهُل لهُ سببُ * * * يوماً ولا مَلكَ الدُّنيـا سُليمـانُ
فجائعُ الدَّهر أنـواعٌ مُنوَّعـةٌ * * * ولِلزمـانِ مسـرَّاتٌ وأحــزانُ
وللحوادثِ سلـوَانٌ يُسهلُهـا * * * وما لما حـلَّ بالإسـلام سُلـوانُ
دهى الجزيرة أمرٌ لا عزاء له * * * هوى لـه أُحدٌ وأنهد ثهـلانُ
أصابها العينُ في الإسلام فارتَزأت * * * حتى خلَت منه أقطار وبُلـدانُ
فأسأل بلنسية ما شأنُ مُرسيةً * * * وأيـن شاطبـة أم أيـن جيـَّـانُ
وأين قرطبةٌ دار العلوم فكـم * * * من عالـمٍ قد سمـا فيها له شـانُ
وأين حمصُ وما تحويه من نزهٍ * * * ونهرهُا العذبُ فياضٌ وملآنُ
قواعدٌ كنَّ أركان البلاد فمـا * * * عسى البقاءُ إذا لـم تبـق أركـانُ
تبكي الحنفية البيضاء من أسفٍ * * * كما بكى لفراق الإلـف هيمـانُ
على ديار من الإسلام خاليـة * * * قد أقفرت ولها بالكفـر عُمـرانُ
حيث المساجد قد صارت كنائس ما * * * فيهنَّ إلا نواقيـسٌ و صلبانُ
حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ * * * حتى المنابرُ تبكي وهي عيدانُ
يا غافلاً وله في الدهر موعضةٌ * * * إن كنت في سِنةٍ فالدهرُ يقضانُ
وماشياً مرحاً يلهيـه موطنـهُ * * * أبعد حمصٍ تغرُّ المـرء أوطـانُ
تلك المصيبةُ أنستْ ما تقدمهـا * * * وما لها من طول الدهرِ نسيـانُ
يا راكبين عِتاق الخيل ضامرةً * * * كأنها في مجال السبـقِ عقبـانُ
وحاملين سيُوف الهندِ مرهفـةُ * * * كأنها في ظلام النقـع نيـرانُ
وراتعين وراء البحر في دعـةٍ * * * لهم بأوطانهم عـزٌّ وسلطـانُ
أعندكم نبأ من أهل أندلـسٍ * * * فقد سرى بحديثِ القوم رُكبـانُ ؟
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم * * * قتلى وأسرى فما يهتز إنسانُ ؟
ماذا التقاطع في الإسلام بينكمُ * * * وأنتم يا عبـاد اللـه إخـوانُ ؟
ألا نفوسٌ أبياتٌ لهـا هِــممٌ * * * أما على الخيرِ أنصارٌ وأعـوانُ
يا من لذلة قومٍ بعد عزِّهــمُ * * * أحـال حالهـمْ جـورُ وطُغيانُ
بالأمس كانوا ملوكاً في منازلهم * * * واليوم هم في بلاد الكفرِّ عبدانُ !
فلو تراهم حيارى لا دليل لهـمْ * * * عليهمُ من ثيابِ الـذلِ ألـوانُ
يا ربَّ أمّ وطفل حيل بينهمـا * * * كمـا تفـرقَ أرواحٌ وأبـدانُ
وطفلةً مثل حسنِ الشمسِ إذ طلعت * * * كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ
يقودها العِلجُ للمكروه مُكرهةً * * * والعينُ باكيةُ والقلب حيرانُ
لمثل هذا يذوب القلبُ من كمدٍ * * * إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ
قال المقري : " انتهت القصيدة الفريدة ويوجد بأيدي الناس زيادات فيها ذكر غرناطة ، وبسطة ، وغيرهما مما أخد من البلاد بعد موت صالح بن شريف ، وما اعتمدته منها نقلته من خط من يوثق به على ما كتبته ، ومن له أدنى ذوق علم أن ما يزيدون فيها من الأبيات ليست تقاربها في البلاغة ، وغالب ظني أن تلك الزيادة لما أخذت غرناطة وجميع بلاد الأندلس ، إذ كان أهلها يستنهضون هِمم الملوك بالمشرق ، والمغرب فكأن بعضهم لما أعجبته قصيدة صالح بن شريف زاد فيها تلك الزيادات .
توفي أبو الطيب الرُّندي – رحمه الله - سنة أربع وثمانين وستمائة ( 684) للهجرة النبوية الشريفة .[center]